الاثنين، 21 ديسمبر 2009

هكذا فلتكن الأخلاق .. .. يا سيادة العقيد !!

العقيد ادريس بوشيبة يمارس عمله في الميدان

كم هو رائع أن تعمل بتفانٍ وإخلاص ..

وما أروع التفاني والعطاء إذا لم نرجوا من ورائهما منفعة دنيوية زائلة ، ولا مصلحة شخصية مهما كان شكلها وأسلوبها .

والرائع حقاً أن تكون هاتيك الأفعال ، وتلكم الصور المذهلة في أمانة العمل لله عز وجل وحده .

ولِمَ لا ...

وربنا الأكرم يقول في كتابه المجيد : {{ والآخرة خير وأبقى }} ..

وإذا قلّبنا صفحات التاريخ .. القريبة منها والبعيدة ، فإننا واجدون صوراً مضيئة ، ونماذج مشرقة ، لفئات من الناس ، ذكوراً وإناثاً ، رسموا بسيرتهم العملية لوحات زاهية ، فيها كل ألوان الصدق والتضحية ، ومعاني نكران الذات ، وإيثار الغير على خاصة النفس ، لا لشيء إلا لرسم السعادة والبسمة في قلوب الناس ، جعلوا من أوامر ربهم ، وتوجيهات نبيهم منهجاً عملياً ، لا شعارات برّاقة فحسب {{ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون }} .

كانت هذه توطئة لما أردته من وقفة مع رمز من رموز العمل الصادق ، والعطاء غير المحدود ، رغم قلة حيلته ، وتواضع مستوى معيشته ، ووفرة عدد أولاده وبناته ـ حفظهم الله تعالى ـ إلا أنه فرض حبّه وتقديره على جميع من تكحّلت أعينهم برؤيته ، وشاهَدَ رأى العين أسلوبه الفريد ، وطريقته الخاصة في إدارة وظيفته بمهنية عالية ، وصدر رحب ، وتواضع حقيقي ، وبسمة لها أثر السحر في تهدئة الخواطر ، وانشراح الصدور ، واستخراج فورة القلق والضجر ممن داعبتهم هاتيك الابتسامة .

أستاذنا في هذه المقالة بين أيديكم هو العقيد إدريس محمد المبروك بوشيبة القطعاني

وُلد عام 1950 م .

له من الأولاد العشرة .. ذكور وإناث ..

جلهم نالوا مؤهلات علمية جامعية في تخصصات شتى .

يسكن في بيت متواضع ، ولكنه يحوي سعادة وهناء ، لو يعلم بهما الملوك وأبناء الملوك لجالدوه عليها بالسيوف حتى يظفروا بها .

هذا العقيد .. لم تُسوّل له نفسه الجلوس في بيته ، والتحايل على وظيفته ، والهروب من مسؤولياته ، وإن أراد ذلك لفعل .

لم تكن رتبة العقيد التي نالها مؤخراً ، ولا الرتب من قبلها ، لتمنعه من مزاولة عمله ميدانياً ، ولم يخجل من الشيب الذي اشتعل في رأسه ، ولا من الرتبة التي حملها على كتفيه ، من الوقوف منذ تباشير الصباح ، في مفترقات المدينة وساحاتها ، وفي مختلف الظروف المناخية القاسية ، فلا حر الصيف الشديد أضعف همته ، ولا الزمهرير البارد كان قادراً على إجلاسه في مكتبه ، بل داس على حاجات نفسه ، وأهوائه ، ليعلمنا كيف يكون الإخلاص ..

كيف تكون التضحية ..

كيف يكون التواضع ..

كيف يكون العرق ..

كيف تعيش لغيرك ..

يوزع ابتساماته يمنة ويسرة ..

يُداعب الكبار والصغار بتحيته المعروفة ..

في أعلى درجات الازدحام تراه يهرول تارة ، ويركض تارة أخرى ، يلاطف هذا ، يُهدئ من غضب ذاك ، له قدرة فائقة في جعل الجميع يستجيب ويهدأ في اللحظات الحرجة .

يتمثل حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلق أخاك بوجه طلق " ..

شدّ انتباهي كما لفت انتباه الجميع ..

جئته في ميدانه ، لأتعلم منه دروس العمل ، وسرّ العطاء .. فاستقبلني وقت الظهر رغم الزحام الشديد بابتسامته المخجلة التي أحسست منها بالحرج في نفسي وسرعان ما لبّى دعوتي في محاورته بعد أن استخلف مكانه شاب من شباب المهنة ، ووقفنا في مفترق الطريق فشرقنا وغربنا في فلسفة الحياة ، وأخلاق العمل .

ويطيب لي أن أضع بين أياديكم شيئاً من المواقف والمعاني التي أحببت أن أهديها لكم .

العقيد أبو شيبة القطعاني ، سوف يتقاعد في الشهر السادس من العام المقبل سألته ما هي أمنيتك قبل مغادرة الوظيفة التي سطرت في صفحاتها أروع ما يمكن أن يقال عن التفاني والإخلاص المهني ؟

أجابني رغبتي أن أبقى في ميداني حتى خروج الروح ، فإنني لا أتصور بأنني سوف أعتزل مهنتي وحركتي الدؤوبة التي هي النفس والهواء ، وأبقى قابعاً في بيتي ، ودعوتي الصادقة لمن أعانني على تحقيقها .

سألته يا سيادة العقيد .. ما هو أنبل موقف لمسته في حياتك ؟

قال لي : الموقف هو الذي كان سبباً في إهداء سيارة حديثة من الدكتور عبد الله زايد الذي أدين له بفضل مدى حياتي .

والغريب أن السيارة التي أهداها له الدكتور عبد الله زايد الذي يعمل حالياً في منظمة الأغذية والزراعة بروما ، كان وراءها تسجيل مخالفة من العقيد لأحد الذين تخطوا الإشارة الحمراء !! ؟ كيف ذلك ؟

قال لي العقيد : بأنه وفي أثناء أدائه لعمله إذ بمركبة تجتاز الشارة الحمراء فقمت بإيقافها وفي يدي وردة كان أحدهم يهديها لي كل يوم من الأخوة العراقيين تقديراً منه وعرفاناً ، وعندما حاورت سائق السيارة وجدته يحمل الجنسية الإيطالية وخاطبه عقيدنا الذي يحسن الإيطالية بطلاقة ، هذا لا يجوز وأنت ضيف على مدينتنا وبلادنا .. فأعطاه الوردة التي في يده وأمره بعد إضاءة الضوء الأخضر بالانصراف مبتسماً ومحيياً له بتحيته التي يضم فيها كفيه ..

العقيد بوشيبة يبتهج بسيارته الجديدة المهداة من الدكتور عبدالله زايد

الأمر الذي دفع هذا الرجل الإيطالي الذي كانت له صلة بالدكتور

عبد الله زايد ، إلى إخباره بروعة الرجل ، وأسلوبه الراقي في معاملته كمخالف وضيف في ذات الوقت .

فما كان من دكتورنا إلا المسارعة في إهداء عقيدنا الخلوق مركبة آلية هو في أمس الحاجة إليها منذ زمان بعيد ، ومن شدة فرحه بها وسروره ، كتب على إحدى نوافذها (( هدية من الدكتور عبد الله زايد )) .

" ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل "

" وكل كريمة لا بد أن تلقى كريماً شاكراً "

" ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله "

وبعد إكمالنا لحديثنا بمحاذاة سيارته ، أخرج لي بعض الملابس فسألته عن قصتها ، فقال لي : هذا قلم سويسري فاخر أهدانيه شاب من مدينة درنة ، وعبّر لي من خلاله عن إكباره لما أقوم به .

وقميص فاخر " جاكيت " أهداه إليه مواطن من بنغازي وسجّل للجميع معاني الشكر والتقدير .

واللافت في أخلاقه كذلك قبوله للتواصل مع الجميع ..

فأثناء محاورتي له تمر بين أيدينا المرأة والطفل والطالب والشاب وغيرهم ..

رأيتهم وكأنهم يخطبون وده ..

يحيونه بصدق ..

ويرد عليهم بتحايا أزكى منها ..

وهنا خطر ببالي حديث الني ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما قال لصحابته رضوان الله عليهم : " أتدرون على من حُرّمت النار ؟ على كل سهل قريب من الناس ، خياركم الذين يألَفون ويُؤْلفون .. ولا خير فيمن لا يألف

ولا يؤلف " .

بارك الله فيك يا سيادة العقيد ..

يا من ارتقيت إلى قلوبنا بأفعالك وأقوالك لا برتبتك ونياشينك

وإني لأرجو أن يحتذي الجيل بأخلاقك المهنية.

فقد رأيتك شمعة محترقة .. ولكنها أنارت لنا كثيراً من دروب الفضيلة والأخلاق وجعل الله ما قدمته من خير في موازينك يوم العرض عليه .

صلاح سالم

18 / 12 / 2009 ف

ليست هناك تعليقات: