الثلاثاء، 2 فبراير 2010

زيارة الوفــــاء ....


دار الوفاء عنوانٌ كُتب علي جدارٍ متصدع يُخيم عليه شبح الحُزن المؤلم لقاطنيه ،

منطقة (مسه) الصغيرة هي المكان ..

والزمان لا أعتقد بأنه زمن ينحدر من أيام حكايات البسباسي أو ألف ليلة وليلة ..

دخلنا والأمل يحدونا بأن لا نجد عدداً من النزلاء تشخص له الأبصار وتقشعر بذكرِه الأبدان ..

ترجلنا جميعنا وقصدنا ذلك الباب الخشبي الكبير المزدان بزخرُفٍ

ونقوش إسلامية شدة انتباهي وسحرت لُبي .




خرج إلينا ذلك الرجل مستقبِلاً زواره بكثير من الترحاب

وعرَفنا بنفسه وإذ به الأستاذ ( الصديق دخيل ) مسئول الدار الأول فيها

والسياسي المحنك في شؤون العجزة والمسنين ..

احترنا في بادئ الأمر أنذهب شِمالاً أم جنوباً

فكل الطرق تؤدي إلي ممرات فسيحة مكسوة بسجاد أحمر

كما لو أن ذلك المبني رئاسياً أو برلماني ..

دخلنا بعد ذلك إلي غرفة واسعة الأطراف

تحُدُها الستائر المعلقة من كل جانب

وتتوسطها شاشة تلفاز بالحجم الكبير

لكي تكون العلامة الفارقة للترف والرفاهية لنزلاء هذه الدار ..

وماهي إلا بضع دقائق حتى ألتف علينا آباءٌ عُجز

وسط أجواءٍ حبية وإنسانية يحتاجها المرء بين الفينة والأخرى

فمنهم من هو مقعد علي كرسيه المتحرك

ومنهم من هو سليمٌ معافى لا يحتاج إلا لأن ينعم بجو أُسري

حاله في ذلك كحال أيُ أبٍ وسط أبناءه ..

حاورناهم بلسان رطبٍ واستجابوا لأسئلتنا

التي لم تكُن ثقيلةً حتى لا تزد من أوجاعِهِم وتفتح جراحهم التي اندملت منذ زمن بعيد وبعيد ..

نظرت إلي ذلك العدد وتلكم الوجوه المطفئة من بشاشة السعادة .

فالعدد لا يُستهان به وأما الوجوه فقد غاب عنها بريقُها

بالرغم من زهو ملبسهم وترف العيش في دار الوفاء ..

خرجنا وكلٌ منا يتحسر ويتأسف

ومنا من جلس بقرب أبٍ له يؤنسه بعذب كلامه

ويستشف منه حقيقة أمره وسبب نزوله الدار

وهل هو بالإكراه من قِبل الأبناء أم أرادوها نهاية لهم

في مكان تتوفر فيه الأريحية التي لم يجدوها مع زوجات أبناءهم ..

الكل سعى إلي إيجاد ما يمليه عليه ضميره المتبسم بشفاه الرأفة

علي رجالٍ كانوا في ما مضى شيً يذكر لولا جحود الأبناء وعقوقهم ..

استللت قلمي من جيبي وجهزت كاميرتي لالتقاط صور تذكارية

ستكون عالقةً في الأذهان ما دامت الحياة تسترسل بأيامها وتتنفس بهوائها ..





استوقفني مشهد لرجلٍ قد فَرَشَ سجادته وأقام صلاته تحت ناضري

لكي يسبقنا متفرداً لصلاة المغرب ..

وبعد إكماله للصلاة ألقيت عليه السلام فرد بأفضل منه ،

صافحته فتبسم لي قائلاً ( شنو حالك يا بوبناخي )

رددت عليه ( الحمد لله يا بوخال )

جلسنا علي مقاعد كانت قد وضِعت في أحد الممرات

أنظر إليه وينظر هو ألي وأقول في نفسي أن هذا الوجه ليس بغريب عني ،

وجه أسمر ببشرته المجعدة والملامح في طياتها الكثير من الأسى ..

سألني قائلاً أأعرفك ؟

قلت ربما !!

فوجهك أيها الخال ليس بغريب عني ..

استرجعت ما تبقي لي من ذكريات ( شارع المستشفي )

فإذ بها تتحدث ألي بسخرية وتقول:

كيف لك أن تنسى ذلك الوجه إنه ( بوشعاله )

وكيف لك أن تنسى أنه كان يصول ويجول في ذلك الشارع

بعد أن طرده أخاه ورمى به رميت الكلاب لا سكن ولا مأكل

حتى اختل عقله وأصبح يهذي هذيان المعتوه ..

صافحت ( بوشعالة ) من جديد بعد أن كنت أخافه صغيراً

لاعتداءاته المتكررة علي من يقابله

وكيف هو الآن في أحسن حال فلباسه الممزق قد استُبدل بالذي هو خير

وهيئته قد تحسنت عمى كان عليه سابقاً ..

تجاذبنا أطراف الحديث وأمطرني بكمٍ هائل من النُكت والطرائف

حتى شعر بدوار طفيف جعله يستأذنني في الذهاب إلي غرفته ..

أمسكت بيده حتى يتسنى له الوقوف

ومن ثم المشيُ إلي غرفته القريبة ..

وعرفت بعدها أن سبب ذلك الدوار هو مرض ( السكري )

الذي ألزمه المستشفي عدة مرات ..

هذه شخصية وجب علي الوقوف عندها كرمز مألوف في شوارع المدينة وأزقتها ..

إذاً هذا هو بوشعاله حي يرزق بع أن ضننا أنه قد توفي ..





وبينما كنت في طريقي للعودة إلي رفاقي استوقفني ( أحمد المشغول ) وقال :

أُريد الذهاب إلي قسم الأُمهات فهلا أتيت معي؟؟

قلت نعم أيها المشغول فلي في ذلك مآرب أُخرى ..

خرجنا برفقة الحاج صالح إن لم تخني الذاكرة متوجهين إلي عالم الأُم

وما أدراك ما عالم الأُم ..

دخلنا بعد أن ألقينا السلام فوجدنا الرد بــــ

( مرحبا بضناي مرحبا مرحبا تفضلوا الدار داركم )

وما إن دخلنا حتى سارعن أمهاتُنا باستقبالنا كما لو أننا أحد أبناءهن

فهذه ترحب بالمسك والتقبيل علي اليدين

وتلك تدعوا بما طاب لها من دعاء حُرمنا منه منذ سنين بعيدة ..

اقتربنا من إحدى الغرف ففوجئنا بعجوزٍ هي الوحيدة التي لم تقف لاستقبالنا ..

اقتربنا منها سألين عن حالها وصحتها التي بدت في الانهيار

فأجابت الحمدلله ( هضا ما عطاني ربي ونا راضيا بيه )

أثارت تلك الكلمات حفيظة ( المشغول) فسأل عنها الحاج صالح

فأجابه بإجابةٍ كالعلقم في مرها .. قالــ .. إنها الحاجة( فاطمة الزياني)

نزيلة منذ سبع سنوات أتى بها أبنها بعد أن فقدت نعمة البصر

فأتي بها إلي دار الوفاء وبعد ذلك علمِت إدارة الدار من أحد جيران هذه العائلة

أن الابن أقام عزاءً لأمه وأوهم الناس أنها قد ماتت في مستشفي الثورة بالبيضاء

ونظراً لحالتها الحرجة فقد تم دفنها في مقبرة البيضاء ..

كل ذلك الفعِل المشين بعد أن عافتها زوجة الابن

التي ليس في قاموسها رد الدين أو الجميل

فالحاجة فاطمة كانت تعول الابن العاق

وتستقطع من لحمها لتتكفل بمصاريفه

حتى أنها زوجته ستة مرات دون أن يدفع في ذلك لا درهم ولا دينار ..

يا الله ما هذا الجحود ألي هذا الحد تصل بنا المعصية ..

الحاجة فاطمة بدت متعبة من ضنك السنين

فذرفت دموعاً أبكتني وكذلك المشغول الذي بدت عليه ملامح التأثر

كيف لا وهو فاقداً الأُم ومنعته إرادة الله عز وجل أن ينعم بدفئها

ولسانُ حاله يقول لو كانت أمي علي قيد الحياة لحججت بها علي ظهري

وما توانيت لحظةً عن إسعادها ..

التقطت الصُور التذكارية للحاجة فاطمة


وكذلك لبعض النزيلات وسط الزغاريد والدعاء لنا بطول العمر

وأن لا يُرينا الله مكروهاً ..

كُللت المهمة بالنجاح وأي نجاح هو ذاك الذي ننتظر من وراءه أجراً عظيما ..







عدنا أدراجنا من جديد ليدخل علينا موعد صلاة العِشاء

أقمنا الصلاة وصلي معنا عدد لا بأس به من النزلاء

ليدخلوا بعدها إلي غرفهم الوثيرة محملين بما طاب لهم

من أبنائهم لتطوى بعد ذلك صفحة بيضاء نقية مجسدة في يوم جميل الحُلة

ارتأيناه كي يكون القلادة الأغلى في أعناقنا ..

وختمنا تلك العواطف الفياضة بجلسة حبية ودودة

تجاذبنا فيها أطراف الحديث ويبدأ الأخ الصديق دخيل حكاية الدار

ومعاناة ساكنيها وقص علينا قصص يشيب لها الولدان

وما كان منا إلا الاستماع والتعجب وعبارات الاستهجان من نكران الأبناء

وعقوقهم وكيف للابن أن يرضخ لطلبات الزوجة

ويترك أباه أو أمه يعيشان أيامهم الأخيرة لا أحد يواسيهما

ولا لحظات عطف هم الآن في أمس الحاجة لها ..

وفي حديث خاص خصني به الأستاذ الصديق ذكر لي فيه بعضاً من القضايا

والأسباب الخاصة ببعض النزلاء

حيث ذكر لي أن امرأةً تركها أبنها أمام الدار

متحججاً بأن عليه إصلاح إطار السيارة دون أن تعلم أنها أمام دار المسنين

فغاب عنها ساعات طوال فتفطن لها أحد المارة

وسألها ما بك واقفة هاهنا يا أماه :

فقالت له قد أنزلني أبني هنا بعد أن قال لي عليه أن يُصلح إطار السيارة

في المحل المجاور وسوف آتي لأخذك بعد ذلك ..

فتحسر الرجل بعد أن عرف أن الابن قد أوهمها بتلك القصة

وأنه قد تركها بطريقة مهذبة للتخلص من أمه ..

أي ابن عاق ذلك الابن وأي نهاية سيلقاها في دنياه وآخرته ..

ومن القضايا الخاصة أيضاً ذكر الأستاذ الصديق

أن جاءته فتاة في ريعان شبابها بعد أن احتمت برجال الشرطة

فذهبوا بها إلي دار الوفاء

فذكرت الفتاة أنها قبِلَتْ الزواج من رجل تحت الضغط من زوجة أبيها

وبعد مرور أيام علي زواجها أتى الزوج يوماً ليُبلغ زوجته الشابة

أن أحد رفاقه سوف يأتي لتناول الغداء معه ،

أعدت الزوجة الغداء وحضر الضيف

دخل عليها زوجها وقال أن عليه الذهاب إلي المحل المجاور

لإحضار المشروب أو فاكهةٍ لإكرام وفادة الضيف

وما إن خرج الزوج حتى دخل الضيف علي الزوجة الشابة

لغرض المضاجعة والنيل من شرفها

فصرخت الزوجة مستنجدة بالزوج

وإذ بالضيف المعتدي يبلغها أن زوجها علي عِلمٍ بذلك

وهو من نسج تلك القصة الوهمية من أجل حفنة من الجنيهات ..

تركت علي إثرها الفتاة البيت مسرعةً وهي تصرخ

ليتفطن لها أحد الجيران وهو الذي أتى بها إلي دار الوفاء

حتى لا ترغمها زوجة أبيها للعودة إلي ذلك الزوج المريض ..

أحداثٌ عظيمة ستقف علي إثرها ساعة الزمن

وتتلبد غيوم السماء سخطاً علي أحوال الناس

وكيف لهم معصية الله عز وجل بهذه الأفعال المشينة التي لا تقبل بها عقلٌ بشرية ..

اتقوا الله عباد الله واعلموا أن الله يراكم في السِر وفي العلن ..

وأن لا تكون النهاية للآباء في دور المسنين والعجزة

بعد أن صنعوا لكم المجد وزينوا لكم الحياة بألوان أعجبتكم

وفتحوا لكم البيوت بالدعاء الصادق الذي ليس بينه وبين السماء حجاب ..

وإلي هنا اختفت ملامح الفرح واختلطت بمشاعر الأسى والحزن العميقين

علي باب كبير أُغلق وخلفه من خلفه أمهات وآباء

لا أحد يخصهما بسؤال يحي الأمل

ويُعيد البهجة في قلوبٍ آمنت بما كتب الله لها ..





وفي الختام هذه صحبتي وهاهم رفقتي

عقدوا العزم .. وداسوا علي الألم ..

من اجل ساكني دار الوفاء ومن أجل خلق فسحة من الزمن

لكي يتسنى لهم نسيان الإهانة من أبناء جاحدين ..

وتتبسم شفاههم بين حين وحين ..






لله ما أعجب أمر هؤلاء العاقين والدِيِهِمْ وكيف لهم العيش والأبُ يبكي ألمه ..

وكيف لهم الهناء والأم تشتهي أحفادها كلمه .. أمي .. أبي ..

لا أراني الله فيكم مكروهاً ..

أمي .. أبي .. أنتم يا من صنعتم لي معروفاً ..

لن أحيا بدونكما ..

ولن أحتمل فراقكما ..

كيف لي أن أزُج بكما في دار المسنين ..

وأن أرضى لكما مُر السنين ..

ختاماً أحبتي الكرام فدار الوفاء للمسنين والعجزة

تنتظر منكم الكثير الكثير فهلا نظرتم لها بعين رحيمة ...


عالم الاحساس ...



ليست هناك تعليقات: